مقال الكاتب الكبير نبيل عمر بجريدة المقال عن عرض باحلم يا مصر
——————–
رفاعة يعود إلى ميدان تحرير!
ثلاث كلمات هي مفتاح اللغز ونجم الشمال إلى عالم مختلف، ثلاث كلمات فحسب يمكن أن تنتشل مصر من كهف التخلف إلى شمس الحضارة، ثلاث كلمات خرج من أجلها المصريون إلى ميدان التحرير في ثورة ٢٥ يناير، لتعديل مسار مصر من الماضي الفاشل إلى مستقبل بازغ..
ثلاث كلمات ساحرة حفرها مصري من قلب الصعيد حلما في وجدان الوطن قبل ما يقرب من مئتي سنة : الحرية والعلم والعمل.
تخيلوا معي ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن حلم رفاعة رافع الطهطاوي قد شق طريقه إلى واقع المصريين جميعا عقب عودته من باريس في سنة ١٨٣١؟!
بالطبع قد تفتح ” لو ” باب الشيطان، إذا توقفنا عندها دون أن نقبض على الحلم بكفوفنا، والفن مولع دائما بلعبة الأحلام، فهي مسار الإنسان الوحيد إلى التغيير، وكان رائعا أن يرفع المسرح القومي ستارته عن “حلم”، ويستعيد لنا رفاعة الطهطاوي، أو يعيده إلى الميدان في يناير ٢٠١٥، في أفئدة وعقول المصريين، بكلمات نعمان عاشور وغناء على الحجار ومروة ناج
ي وآداء كوكبة لامعة من فناني المسرح، يقودهم مبدع حالم أيضا بمصر مختلفة هو المخرج عصام السيد.
ما أحوجنا إليك يا طهطاو
ي، ” أن نحلم معك بمصر أميرة في غاية السعادة، تملي سما الإنسانية نضارة، حتى لو لسة عقول في بلادنا راقدة في حضن البلادة”!
دخلت إلى المسرح القومي بعد سنوات خمس من الغياب الإجباري، كان المسرح أسيرا مكبلا بين إهمال مقصود وعبودية التتار الجدد، الذين حولوا كل ميدان في مصر إلى “سويقة وفوضي وقلة ذوق وعشوائية” باسم البحث عن “لقمة العيش”، كما لو أن لقمة العيش لا تُخبز إلا بالغلاسة وتحويل حياة الأخرين إلى جحيم أو مقلب قمامة!
عادت الأضواء تتلألأ، وواجهة المسرح تعيد لميدان العتبة بعضا من ألقه القديم، كل شئ يشى بأن عملا عظيما قد أنجز لإعادة تراتيل الفن إلى هذا المِحْراب!
ثلاث دقات تقليدية إيذانا برفع الستار، لها وقع الخيول المجنحة الأسطورية التي تسبح في الفضاء..وفعلا امتطناها وحلقنا معها إلى أوائل القرن التاسع عشر، وبالرغم من هذا لم نبعد كثيرا، فمن أول
لحظة كشف لنا عصام السيد إن الستارة التي رفعت أولا هي مجرد تقاليد مسرحية، ولكن المسرح نفسه هو مصر والجمهور هو أنتم أيها المصريون، فدخل رفاعة من وسط الناس في القاعة إلى خشبته..مجرد مرآة لكم!
ونعمان عاشور حين ك
تب هذا النص، وقد فعل ذلك مرتين، مرة بالفصحى ومرة بالعامية، وصفه بأن “دراما تسجيلية”، ومعروف أن كل ما هو “تسجيل” يسحب بعضا من رصيد ” فن” الدراما، فالتسجيل ” عدو الفن ” بالسليقة، لكن عصام السيد قبل التحدي، ونقل لنا التسجيل إلى خلفية اللعؤض من خلال البريجكتور والمشاهد السينمائية القصيرة المكثفة، فكان مثل نقلة طبيعية داخل العمل، كالتي تتم بين تغيير المشاهد، نشعر بقيمتها وليس زمانها، فلم تكن عبئا على الدراما!
وقد أدخل عصام تعديل
اً طفيفا على النص الأصلي، وخاصة في مدخل العرض، وكان إضافة قوية، فالنص الأصلي يبدأ وينتهي بمناقشة رسالة ماجستير في زمننا الحالي عن رفاعة الطهطاوي ودوره، ومن خلال المناقشة يعود بنا المؤلف ( فلاش باك) إلى زمن رفاعه وبيئته، لكن عصام ألغى هذه المناقشة واعتبرها من الزوائد غير الضرورية، وكان مصيبا، لأننا فعليا عدنا إلى زمن رفاعة، وربما قبل أن يطل بمصر على الدنيا الحديثة حين ارسله الباشا محمد على مع بعثة دراسية إلى باريس إماما لها، فنحن بشكل أو بأخر عدنا القهقري، صحيح صار لدينا طائرات وكمبيوترات وفضائيات وألعاب إلكترونية ومولات
وملبس على الموضة، وغيرها من أشكال حضارية وأدوات حضارية، لكننا لا نملك ” عقل” الحاضر ولا أساليبه في التفكير والرؤية والخيال والتنظيم والعمل، فمازال عقل الماضي ماردا قابعا في داخلنا مثل سلاسل من فولاذ يشدنا بقسوة وعنف إلى كل ما هو
متهالك من قيم وأفكار!
ولذلك ابتكر عصام السيط بداية مختلفة للعرض المسرحي، صوت عميق رصين مُزلزل كأنه قادم من خلف الأفق بأول كلمة نزلت في القرآن الكريم “أقرأ”، ليقول لنا للمرة الألف أو المليون أن التحديث والعصرية والعلم والمعرفة هى من أعمال الإيمان، وأن الذين يصنعون تناقضا بين الدين والحداثة هم سدنة معبد التخلف وحراس “عقل الماضي” ليظلوا معه مسيطرين علينا!
وعقل الماضي له جانبان معتمان: جانب ديني وجانب سياسي.
ويمكن اعتبار مسر
حية ” بحلم يا مصر” هو عمل تحريضي على الحلم جاء في وقته تماما، تحريض على كسر العتمة والانفلات من سجن الماضي بكل ما فيه من استبداد وجهل وكسل إلى الحرية والعلم والعمل، ( امتى بس يا شيخ رفاعة.. أمتى تتحقق آمالك.. امتى تتغير بلادنا.. تبقى مصر اللي ف خيالك).
ولأنه عرض تحريضي
لعب فيه الغناء دورا حيويا، فألحان أحمد فرحات كانت مشبعة بالروح المصرية من شجن وحلم وفيها قدر من التوثب، ، وكلمات حمدي عيد تمضي على درب شعراء العامية العظام في بساطتها وعمقها، أما الفنان على الحجار فكان رائعا في دور رفاعه الطهطاوي، وهو من المطربين القلائل الذين يجيدون فن التمثيل، وأضفى غناؤه بصوته القوى الممتع حيوية فائقة على النص، هو ومروة ناجي التي أراها مشروعا فنيا واعدا.
وكان صوت محمود ياسين في رواية نزول الوحي على رسول الله وتلاوة أول آيات القرآن الكريم مهيبا ومؤثرا ومنبها.
ما أجمل أن يعود إلينا مسرحنا القومي، والأجمل أن نحول حلم رفاعة الطنطاوي إلى واقع معاش في زمن ثرنا فيه، ومازلنا نبحث عن الطريق!
نبيل عمر
مرتبط