لست ممن يؤمنون بالابراج و تأثيراتها على البشر ، فمواليد نفس البرج من الممكن ان يتناقضوا حتى تشك ان هناك سمة واحدة مشتركة تجمعهم ، و بالتالى يصبح من الصعب ان تصدق ان للكواكب و النجوم تأثير واحد عليهم جميعا و بنفس القدر و بنفس الطريقة و تنتج نفس الأثر . و لذا فإن علاقتى بالابراج هى علاقة تسلية و لهو و ليس اكثر ، الى ان اكتشفت مؤخرا أن لشهر يناير وضعاً خاصاً فى حياتى ، لأنه أنتج وقعاً مختلفا عن بقية الشهور ، ففيه قدمت كثير من اعمالى واكثرها نجاحا ، فعندما حل يناير من عام 1989 كان افتتاح عرض اهلا يا بكوات على المسرح القومى – الذى تم افتتاحه بعد اعادة تجديده فى يناير من عام 1986 – ثم اعيد عرض المسرحية بنفس ابطالها عام 1993 فى يناير ايضا ، ثم اعيدت للمرة الثالثة فى يناير من عام 2006 فى اول سابقة من نوعها .
بالاضافة الى أن مسرحيتى ( ذكى فى الوزارة ) و( فى بيتنا شبح ) كان من المفترض افتتاحهم فى يناير و لكن تم تأجيلهم الى فبراير ، أما مسرحيتى : (باحلم يا مصر ) و ( الناس بتحب كده ) فقد تم افتتاحهما فى نهاية ديسمبر !!
و لكنى بقليل من البحث و التفكير وجدت ان شهر يناير هو شهر الاعاصير التى تؤدى الى تغيرات جذرية فى حياة شعب مصر ، فمعظم الاحداث الهامة وقعت فيه ، و ربما لا تظهر نتائجها فورا و لكن انطلاقا من ذلك الشهر تنطلق عجلة التغيير و لا يستطيع احد ايقافها . و لهذا يعتبر يناير ليس بداية للعام الجديد فقط و لكن بداية لحقبات مختلفة عاشتها مصر .
ففى الخامس و العشرين من شهر يناير عام 1952 كانت معركة الشرطة مع المحتل الانجليزى فى الاسماعيلية التى كانت تتويجا لمجموعة احداث دامية قامت بها قوات المحتل فى محاولة لقمع اعمال الفدائيين فى منطقة القناة ، فبدأت المعركة بين قوات الاحتلال و الفدائيين فى السويس يوم 3 يناير ثم انتقلت الى ابو صوير بالاسماعيلية يوم 4 يناير و فى كلا المعركتين كانت قوات الشرطة تساعد الفدائيين و تحارب معهم ، فقام المحتل بحصار قسم بوليس الاسماعيلية و مبنى المحافظة و طلب اخلائهما . رفضت مصر ممثلة فى ابنائها الضباط ان تُخلى المبنيين برغم حصارهما باسلحة ثقيلة لا تتناسب مع حجم و تسليح القوات المصرية المتواجدة ، و بناء على هذا الرفض دارت معركة لمدة ساعتين ، و برغم قصر مدتها زمنيا الا أنه سقط فيها خمسون شهيدا و ثمانون مصابا ، ليتحول هذا اليوم عيدا للشرطة و الحقيقة انه عيد للكرامة المصرية ، و فى مثل هذا اليوم عام 2009 قرر الرئيس حسنى مبارك اعتبار ذلك العيد اجازة رسمية !
و تشاء سخرية القدر أنه و فى نفس اليوم و بعد سنتين فقط من اعتباره اجازة رسمية ، انطلقت مظاهرات حاشدة بسبب تجاوزات الشرطة الكثيرة ، التى تمثلت فى القبض العشوائى و انتشار حوادث التعذيب داخل الاقسام ، و برغم قبضتها الحديدية على المواطنين انعدم الامن الحقيقى ، و انتشرت الحوادث الارهابية و لعل افدحها كان تفجير كنيسة القديسين بالاسكندرية فى الساعة الاولى من يناير 2011 .
و فى الثامن و العشرين من نفس الشهر تحولت تلك المظاهرات الى ثورة شعبية ، مازل البعض يختلف حول دوافعها و اهدافها ، لكنها ادت الى تغيرات جذرية فى المجتمع ، و يكفى انها كشفت لنا فصيلا ظل متربصا بكرسى الحكم ما يزيد عن 80 عاما ، ففى يناير 2012 تحققت الاغلبية لجماعة الاخوان المسلمين داخل مجلس الشعب ( البرلمان ) لاول مرة ، فيعقد اولى جلساته برئاسة احد اقطابها ، و ظن البعض ان هذا برلمان الثورة المعبر عن الشعب و تذكروا اول وزارة للشعب و للثورة قادها سعد زغلول فى يناير من عام 1942 ، و لكن ظن الجميع خاب فسرعان ما أسفرت الجماعة عن وجهها الحقيقى و اذا بالشعب الذى اختارها يخرج لاسقاطها بعد عام واحد .
و للاسف الشديد كان لشهر يناير فضلا كبيرا علي هذا الفصيل ، فبرغم انه فى يناير من عقد الخمسينات صدر القرار بحل جماعة الاخوان المسلمين ، و فى يناير أيضا ألقت السلطات القبض على 318 من اعضائها فى اول صدام بينهم و بين ثورة يوليو الذى تصاعد فيما بعد حتى وصل الى مثول اعضاء الجماعة امام المحاكم و اعدام بعض قادتها ، الا ان احداث يناير فى السبعينات كانت سببا فى عودتها الى الحياة السياسية من جديد
ففى يناير 1972 ثار طلاب الجامعة ضد التسويف الساداتى لدخول حرب تحرير سيناء ، فقد اعلن ان عام 1971 هو عام حسم المعركة مع العدو الصهيونى – برغم ان احدا لم يرغمه على ذلك – ثم ظهر فى يناير 72 متعللا بالحرب الهندية الباكستانية التى شغلت العالم عن النظر فى القضية المصرية ، و اطلق اسم عام الضباب على ذلك العام بدلا من عام الحسم . و لكن تلك الاسباب لم تقنع المتشوقين لازالة اثار العدوان و خاصة طلاب الجامعات ، فانفجروا فيه بعد ان تخيل ان الحكم قد دان له باعتقال كل مناوئيه فى مايو 1971 ، و اذا بالطلاب يعقدون مؤتمرا فى 15 يناير تحول الى اعتصام عندما رفض السادات الذهاب اليهم لمناقشته فى أمر الحرب ، و عندما تم فض الاعتصام داخل الجامعة تحولت بقية جموع الطلاب و بعضا من فئات الشعب الى ميدان التحرير ( برضه ) لتعتصم فيه .
و فى يناير 1973 تكررت انتفاضة الحركة الطلابية ضد السادات و انضم اليهم العمال ، و نتج عن الانتفاضة صدام بين المثقفين و السادات ، قاده الكبيرين نجيب محفوظ و توفيق الحكيم ، الذين صاغا بيانا وقعه ما يقرب من مائة من الكتاب و الصحفيين يقول فى طياته : ” لقد كثر الكلام عن المعركة دون معركة حتى صارت المعركة مضغة فى حلوقنا لا نستطيع ان نبتلعها و لا نستطيع ان نلفظها ” . و كان من نتيجة هذا البيان منع كل موقعيه ( ما عدا الحكيم و محفوظ ) من الكتابة بسحب عضوية الاتحاد الاشتراكى منهم التى كانت شرطا لممارسة الصحافة ، و نقل بعضهم لوظائف اخرى و سرعان ما اشتعلت الجامعة فصدر امر بإغلاقها فقام بعض الطلاب و قليل من المثقفين بالاعتصام داخل الجامعة الى ان تم فضه بالقوة فى 11 يناير .
و كانت النصيحة التى اخذ بها السادات ليجابه احداث يناير المتكررة هى اعادة التيار السياسى الاسلامى الى الحلبة ليقاتل التيار الناصرى و اليسارى الذى قاد مظاهرات الطلاب و العمال . و هكذا بسبب احداث يناير عاد الاخوان من تحت الرماد و أفسحت اجهزة الدولة لهم الطريق ليتمددوا و يتوحشوا طوال عصر السادات حتى ظهرت من عباءتهم تنظيمات الجهاد المسلح التى تلطخت اياديها بدماء الحوادث الارهابية ، و اختتموها باغتيال السادات نفسه الذى ظل يعانى طوال حكمه من شهر يناير .
ففى 18 و 19 يناير من عام 1977 ثارت جموع الشعب المصرى من الاسكندرية الى اسوان بلا اتفاق او تخطيط بعد قرار برفع الاسعار ، و بسبب تلك الثورة – التى اسموها انتفاضة فيما بعد – هرب السادات الى اسوان و كان على اهبة الرحيل لو تطورت الامور اكثر ، و اضطر الى الغاء تلك القرارات و فرض حظر التجوال ، و القبض على الالاف من الطلاب و العمال و الكتاب و المثقفين و رجال القانون و الفنانين ، و تم اتهامهم بالانتماء الى مجموعة تنظيمات شيوعية تستهدف قلب نظام الحكم ، و لكن القضاء المصرى الشامخ برّأ ساحة الجميع فى حكم تاريخى . و ظلت انتفاضة الخبز تمثل الضربة الكبرى لنظام السادات و ظل هو يعانى منها و ربما كانت سببا فى ان يفكر فى إلهاء ضخم يخفى به فشله داخليا ، فأتجه الى العدو الصهيونى ليعقد معاهدة صلح . و فى يناير من عام 1980 أبلغ السادات هيئة الامم المتحدة رسميا بانتهاء حال العداء مع اسرائيل .
و اذا كانت ثورة 25 يناير هى الحدث الذى تسبب فى أكبر التغييرات و اشدها عمقا فى التاريخ المصرى ، فهناك حدث آخر لا يقل عنها تأثيرا ، ففى السادس و العشرين من نفس الشهر عام 1952 – أى فى اليوم التالى لمعركة الاسماعيلية – كان حريق القاهرة ، الذى مازال مجهول المصدر و الفاعل حتى الان ، و الذى ادى الى تسارع خطى الضباط الاحرار فى ازاحة الحكم الملكى عن كاهل مصر ، كما مهد ذلك الحريق الطريق لتقبل الشعب ل ( الحركة المباركة ) . تلك الحركة التى قادها و خطط لها مولود منتصف شهر يناير ، العزيز على القلب جمال عبد الناصر الذى قاد مصر فى فترة من اهم فترات نضالها الوطنى لاسترداد كرامتها .
لقد سعى عبد الناصر لأن تسيطر مصر على قرارها السياسى بتحقيق تنمية اقتصادية تتيح لشعبها حياة كريمة ، و لذا وضع حجر الاساس لاهم مشروع تنموى مصرى و رمز استقلال القرار السياسى ( السد العالى ) يوم 9 يناير 1960 قائلا فى خطابه ( أن الأرض الجديدة التى سنحصل عليها من السد العالى هدف بالغ الأهمية.. كذلك ما من شك أن طاقة الكهرباء التى سنحصل عليها من السد العالى أمر بالغ الأهمية.. ولكن القيمة الكبرى للسد العالى هى العزم والإرادة والتصميم ) . و مضى عبد الناصر جسدا و بقى السد العالى رمزا و قيمة تحمى اقتصادنا و تحمينا من الفيضانات و من السنين العجاف بعد ان تم الاعلان عن الانتهاء منه فى 15 يناير 1971 .
و اذا كانت معركة السد قد استلزمت تأميم قناة السويس ، فانها ايضا ادت الى تمصير الاقتصاد المصرى بتأميم البنوك و الشركات الاجنبية فى 14 يناير 1957 بعد انتهاء العدوان الثلاثى ردا على تجميد معظم الدول الاجنبية لارصدة مصر ، كما صاحب قرار التأميم قرارا آخر يإنشاء المؤسسة الاقتصادية ( وزارة الصناعة فيما بعد ) بغرض تنمية الاقتصاد القومى .
كل تلك الاحداث فى تاريخنا المعاصر تمت فى يناير ، فغيرت وجه التاريخ ، و لكن يظل احب تلك الاحداث الى قلبى انه شهر ميلاد الزعيم و شهر ميلاد ابنى الوحيد