انتونان ارتو و مسرح القسوة

 

أنتونان آرتو

( 1896 / 1948 )

  • يطمح الأخرون إلي خلق اعمال فنية ، أما أنا فلا أريد إلا إظهار روحي
  • الإخراج المسرحى هو تجسيد مرئي تشكيلي للكلمة ، و هو لغة كل ما يمكن أن يقال و يتم التعبير عنه علي خشبة المسرح بغض النظر عن الكلمة

حياته :

1896 : ولد انطونين ارتو في مرسيليا بفرنسا لأبوين من اصول يونانية ضمن تسعة أولاد    لوالديه توفوا جميعا ماعداه و اخت له

1900 : بدأت اعراض مرض التهاب السحايا تظهر عليه و هو في سن الرابعة و ظلت نوبات الألم تصاحبه مما جعله شخصيا عصبيا ، كما عانى من التلعثم و نوبات الاكتئاب و في محاولة لعلاج مرض الزهرى الوراثى زار عدة منتجعات صحية و مصحات

1919 : استدعى للقتال في الجيش أثناء الحرب العالمية و لكنه حصل على اعفاء صحى بعد تسعة اشهر

1920 : تعرف على ” إدوارد تولوز ” الذي لعب دورا مهما في حياته ، حيث أنه لم يكن طبيبه النفسي وحسب بل إيضا كان طريقه إلي عالم الأدب والفن و بدأ في كتابة قصائده الأولى

1924 : صدور البيان السريالي الأول بعد سنوات من ظهور الحركة السيريالية ، وفي نفس العام تم تأسيس مكتب البحوث السّريالية وبدأوا بنشر مجلة الثّورة السريالية

1925 : تم تعيين أرتو مديرا للمكتب المركزي للبحوث السريالية

1926 : تم طرده من الحركة بعد خلافاته مع «أندريه بريتون»، وبعد ذلك بعام قام بتأسيس مسرح «ألفريد جاري» بالتعاون مع «روجر فيتراك» وقام بأخراج مسرحيات عديدة مثل «حلم»، «اسرار الحب»، «فيكتور أو الأطفال يصلون إلي السلطة».

1933 : أصدر كتابه الأول ( مسرح القسوة ) الذى جمع فيه تنظيراته المسرحية

1935 : أنشأ مسرحه وقام بتطبيق افكاره النظرية في عرض يحمل اسم «آل شنشي»

1936 سافر إلي المكسيك وعند عودته إلي فرنسا تم القبض عليه في ميناء «الهافر» نتيجة لحالته الصحية المزرية حيث كان قد أدمن المخدرات عندما وصفها له احد الأطباء كعلاج للألم

1938  : أصدر كتابه الهام “المسرح وقرينه” و فيه يرفض ان يتحول المسرح الى مجرد تمثيل و تقليد ، بل يجب أن يعود الى  جذوره الاحتفالية والطقوسية البدائية لكي يحرر غرائز الإنسان السلبية المتأصلة فيه، ويحرره من الانفعالات الموروثة ومن مشاعره العدوانية الكامنة والمختفية في وعيه الباطني على المستوى اللاشعورالجماعي.

1944 : خرج بعد أن قضى حوالى ثمان سنوات في  مصحات عقلية، مما كانت له عظيم الأثر في تكوين فكر أرتو وبلورة ابداعاته.

أواخر عمره أصيب بسرطان المعدة

1948 : توفى في باريس

مقدمة :

برغم أن أنتونين أرتو لم يحظ بتقدير كبير في حياته لكنه يمثل ثورة حقيقية في عالم المسرح ، فتأثيره أصبح ملموسًا بعد وفاته، حيث ألهم أجيالًا من المسرحيين ليعيدوا التفكير في دور المسرح وحدوده كان من نتيجته تغيير جذري في كيفية تقديم المسرح وتلقيه . و تمثل تجربة أرتو المسرحية دعوة للخروج من منطقة الراحة، فالمسرح بالنسبة له ليس مجرد وسيلة للتسلية بل وسيلة للتحرر، مواجهة الذات، واكتشاف معانٍ جديدة للحياة

سعى ارتو الى تحدى الأشكال التقليدية ، و تقديم تجربة حسية وعاطفية صادمة . و من خلال منهجه المسمى ” مسرح القسوة ” أعاد أرتو تعريف الفن المسرحي كوسيلة للاتصال العميق بالإنسان ، إذ مزج بين التجربة النفسية والروحية العميقة واستخدام الجسد والصوت كأدوات رئيسية لإحداث تأثير قوي على الجمهور . فالقسوة ليست عنفًا جسديًا بقدر ما هي صدمة نفسية وروحية تهدف إلى تحرير الإنسان من الجمود والسلبية.

ان ارتباط ارتو في البداية بالحركة السيريالية التي تهدف إلى البعد عن الواقع و تميزت بالتركيز على كل ما هو غريب ومتناقض ولا شعوري ، وإطلاق الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية وسيطرة الأحلام ، كما نسفت ( الحكاية ) وكسرت التجانس المنطقي بين عناصرها وادخلت علي المسرح مواضيع مستمدة من الأحلام و تميزت بالتحولات الغريبة و المفاجئة  والعنف ، و أدت الى ” التركيز علي اللاوعي الجماعي من اللاوعي الفردي الذاتي للفنان ورغبته في التوسل بالأسطورة بدلا من الرؤي الفردية، وتوسله بالشكل والحركة بدلا من الشكل والكلمة ” كل ذلك جعل ارتو يفكر في مسرح مختلف من ناحية الشكل و المضمون و آلية التلقى .

و لكن لم تكن الحركة السيريالية هي المؤثر الوحيد على ارتو بل تدخلت عدة مؤثرات أخرى عليه مثل :

  • المسرحية الشرقية : في عام 1931 حضر ارتو عرضا لفرقة جزيرة بالى في باريس فاكتشف أن المسرح الشرقى ذو النزعات الميتافيزيقية يناقض المسرح الغربي ذا النزعات النفسية ، و أن لغة المسرح الشرقى تتكون من مجموعة من الحركات والإشارات والوقفات والأصوات، تلك اللغة تبسط نتائجها الجسمانية الشاعرية علي شتي مستويات الوعي، وفي جميع الاتجاهات، و ان سلطة المخرج تفوقت على سلطة النص ، فالخشبة هي مصدر الخلق ولذلك فان العرض يستخدم فضاء المسرح بكل أبعاده، ويعتمد الفضاء المسرحي بشكل أساسي علي استبدال ما هو لغة مكتوبة بلغة مرسومة في الفضاء الذي تملؤه الحركات والأشكال الألوان والصرخات والوقفات
  • ألفريد جاري ” [1] : الذي أسس الاتجاه «الباتافيزيقي» ويقصد به الوصول بالمسرح -كتجربة فنية- إلي ما وراء الطبيعة ، و تعد فلسفة جاري بمثابة ميلاد حركات تحررية واسعة النطاق بالمسرح ، فمنذ مسرحيته الأولى ( أبو ملكا عام 1896 ) استطاع جارى

خلق نوع جديد من المسرح لا يقوم علي مناقشة أو عرض الأفكار والقضايا الحادة، وإنما يهدف أساسا الي تفريغ جميع الأفكار والقضايا من جديتها، وإظهار عبثيتها عن طريق المعالجة المرحة الساخرة في الحوار، وإيضا عن طريق تغيير شكل العرض المسرحي تغييرا جذريا بحيث يصبح لوحة تتسم في آن واحد بالعبثية والهزلية. كما حاول جاري في هذه المسرحية أن يجعل الممثل يستخدم ما أسماه بالإشارة أو الجملة المعبرة العالمية، بدلا من الاعتماد علي اللغة، وفضل استخدام الأقنعة علي المكياج المسرحي، كما فضل استخدام اللوحات المكتوبة للدلالة علي المكان بدلا من تغيير الديكور، ومن هنا يتضح محاولته لأزاحة اللغة المنطوقة وإحلال لغة الموسيقي والأقنعة والمكياج وغيرها من التقنيات مكانها

لقد كان جاري يحاول عن طريق فلسفته هذه أن يستشف عوالم جديدة ومناطق وعي جديدة خارج العوالم المنظورة والنظريات الميتافيزيقية التقليدية. وكان متأثرا إلي حد كبير بالرمزيين إذ لا يجب أن ننسي أن جاري بدأ حياته شاعرا رمزيا تحت جناح المدرسة الرمزية [2] في الشعر التي بلغت اوج ازدهارها إبان حياته.

مسرح القسوة :

يقول ارتو : لا يتعلق الأمر بالقسوة الجسمانية او المعنوية بل يتعلق قبل كل شئ بقسوة مرتبطة بعذاب الوجود و شقاء الإنسان في جسده في عالم يمتلئ بالحروب و الكوارث و يسرى فيه العنف . و لذا فالمسرح لا يجب ان يكون وسيلة للتحليل الاجتماعي أو النفسى وإلا تحول إلي ميدان للوعظ أو للحديث عن الأخلاق ، و انما يجب أن يكشف المسرح عن العالم الداخلى المليئ بالخرافات و الاساطير و القصص الصوفية و كل ما ينتمى الى عالم اللاوعى ليكشف عن ما في الحياة الإنسانية من تهافت و اضطراب ، كل ذلك أثر على الجسد الذي هو وعاء النفس والروح والذي يعد من أهم الوسائل التعبيرية التي تتصدر القائمة في مسرح القسوة .

و تحت تأثير مسرح الشرق ( مثل النو و الكابوكى و غيرهم ) أراد أرتو أن يعيد إلي لغة الجسد من حركات و إيماءات قيمتها و مكانتها في العمل المسرحي ، فالجسد يعبر عن انفعالات الجماعة وأحلامها ومشاعرها وصراعاتها و طموحها وأمنياتها

في مجال الأداء التمثيلي يولي أرتو الممثل أهمية خاصة ، ذلك لأن تحقيق ما يرمي إليه من نظريات ، يعتمد بالدرجة الأولي علي حيوية الممثل وقدرته علي التعبير ، وعلي الاستحواذ علي مشاعر المتفرج ، و لكن أرتو لم يضع أسلوبا أدائيا ، بل علي العكس أعطي للممثل حرية واسعة لتحديد أسلوبه التمثيلي ، بشرط أن يمتلك قدرات حركية وصوتية هائلة تمكنه من الرقص والحركة والغناء ، كما يشترط آرتو في الممثل ضرورة امتلاكه لنوع من العضلات العاطفية ، التي تتوازي مع مهاراته الجسدية .

في مجال المعمار المسرحي ، يري أرتو ضرورة ألغاء خشبة المسرح واستبدالها بمكان متسع ليس به حواجز تفصل بين المتفرج والممثل ، بالإضافة إلي مقاعد غير مثبتة تتحرك في كل الاتجاهات حتي يمكن للمتفرج متابعة العرض المسرحي الذي يدور في أماكن متفرقة من الصالة ، وعلي مستويات مختلفة بعضها أفقي وبعضها رأسي ، بهدف أن يشعر المتفرج أنه في وسط الفعل المسرحي

أهداف مسرح القسوة:

يرى أرتو ان المسرح يجب أن يكون مثل الطاعون الذى يقول عنه ” إنه نافع، إذ يدفع البشر إلى أن يروا أنفسهم كما هم، وهكذا يسقط القناع، وينكشف الكذب، والنذالة والنفاق. إنه يكشف للجماعات عن سلطانها القاتم، وقوتها الخفية، ويدعوها إلى أن تتخذ، أمام القدر، موقفًا بطوليًا ساميًا، لولاه لما اتخذته البتة ” لكن الفرق أن الطاعون يقتل من دون أن يقضي على الأعضاء، في حين أن المسرح لا يقتل، لكنه يثير أكثر التغيرات غموضًا، لا في فكر الفرد، بل في فكر شعب بأكمله. هذا الهذيان الأخلاقي الذي ينتجه المسرح يمكن أن يكون معديًا من أجل :

  1. إعادة الاتصال مع الحياة: رأى أرتو أن المسرح يجب أن يكون انعكاسًا حقيقيًا للحياة، بكل ما فيها من معاناة وقسوة وجمال. الحياة ليست مريحة، والمسرح يجب ألا يكون مريحًا.
  2. إيقاظ المشاهد :أراد أرتو أن يخرج المشاهد من حالة اللامبالاة والانعزال عن مشاعر وأحداث الحياة، من خلال تقديم تجارب مسرحية تحفز الحواس وتثير الانفعالات القوية.
  3. تفكيك اللغة: اعتقد أن اللغة التقليدية قاصرة عن التعبير عن أعماق النفس البشرية، لذلك دعا إلى استبدالها بصور بصرية وحركات جسدية قوية.

 

أساليب مسرح القسوة

  1. التأثير الحسي المكثف

اعتمد أرتو على تحفيز الحواس بطريقة مباشرة وقوية. استخدم الأصوات العالية، الإضاءة المتغيرة، والحركات الجسدية العنيفة لتوصيل رسالته. كان الهدف هو جعل المشاهد يشعر وكأنه داخل الحدث المسرحي وليس مجرد متفرج سلبي.

  1. تجاوز النصوص التقليدية

رفض أرتو الهيمنة المطلقة للنصوص المكتوبة في المسرح. كان يرى أن النص يقيّد الإبداع ويقلل من فرص التواصل المباشر مع الجمهور. في مسرح القسوة، تُعتبر الصورة البصرية، الإيماءات، والإيقاع الصوتي أهم من الكلمات.

  1. الجسد كمحور أساسي

الجسد بالنسبة لأرتو هو الأداة الأكثر تعبيرًا، فهو يحمل في طياته المعاناة والخبرات الإنسانية. دعا إلى استخدام الجسد بطريقة مكثفة وغير تقليدية للتعبير عن المشاعر والأفكار.

  1. الطقوس والرموز

استوحى أرتو الكثير من الطقوس الدينية القديمة والممارسات الروحانية. رأى في الطقوس وسيلة لخلق تجربة جماعية تلمس الروح وتحرر النفس من قيودها.

  1. التفاعل مع الجمهور

كان أرتو معارضًا لفكرة الفصل بين الممثلين والجمهور. دعا إلى إزالة هذا الحاجز ليصبح الجمهور جزءًا لا يتجزأ من العرض المسرحي.

 

تأثير أرتو ومسرح القسوة على المسرح الحديث

لم يتمكن أرتو من تحقيق رؤية “مسرح القسوة” بالكامل خلال حياته، لكنه أثر بشكل عميق على أجيال كاملة من المسرحيين والمخرجين ، و نلاحظ هذا التأثير من خلال :

  • أن مسرحه كان خطوة هامة في طريق تأكيد سطوة المخرج على العرض المسرحى و فرض سلطته لتصبح اقوى من سلطة النص .
  • من المؤكد أن ارتو كان من آباء المسرح التجريبى الذى يعطى مساحة اكبر للصورة على حساب الكلمة المنطوقة و نسف ضرورة وجود سياق منتظم في العرض المسرحى
  • تأثرت العديد من الحركات المسرحية بمفهوم أرتو حول استلهام الطقوس والرموز القديمة لخلق تجربة مسرحية مميزة هي المسرح الطقسى .
  • التركيز على جسد الممثل كأداة رئيسية للتعبير كما نرى في تجربة جيرزي جروتوفسكي الذى تأثر أيضا بجوانب القسوة في الأداء
  • السعي لإشراك الجمهور بطرق غير تقليدية كما حدث في الاعمال التجريبية لبيتر بروك و في تجربة مسرح الشمس لاريان منوشكين
  • لفت الانتباه الى ثراء تجربة المسرح الشرقى و ضرورة الاستلهام منها .

 

 

[1] 1873 – 1907 ” مسرحي فرنسي، كان من بين الذين قاموا لمناهضة ما كان عليه المسرح الفرنسي في هذه المرحلة

[2] الرمزية : هي حركة تجريبية بحتة في الأدب والفن ظهرت في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، كرد فعل للمدرستين الواقعية و الطبيعية و تقوم على استخدام الرمز لتمثيل الأشياء مثل الأفكار والمشاعر بدلا من الرموز اللغوية وهدفت إلى التعبير عن سر الوجود عبر الرمز . و قد وضعت لدي ظهورها لبنة لتحولات جذرية في فن المسرح سواء علي مستوي الكتابة أو الإخراج ، علي الرغم من أنها رفضت التركيز علي العرض المسرحي، إلا أن أعمال أصحابها شكلت محطة هامة في تطور الصورة البصرية في العرض المسرحي ، كما ركزت علي أداء الممثل ، حيث كانت ترمي إلي إعطاء حركة الممثلين علي الخشبة طابعا قدسيا