حول العرض المسرحي :
حكايات عزبة محروس ..
عرض شعبي .. ينتصر للحكي والسرد القصصي ويهمل الحوار !!
أحمد عبد الرازق أبو العلا
أثناء مشاهدتي للعرض الذي كتبه ومثله رسام الكاريكاتير ( سعيد الفرماوي) ، وأخرجه (عصام السيد ) ، للبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية ، تذكرت رواية ( محب ) التي كتبها الراحل الكبير ( عبد الفتاح الجمل) ، وفيها قدم سيرة ذاتية لقرية (محب )- وهي أحدي القرى الصغيرة في محافظة دمياط – وتلك السيرة جاءت تسجيلا حيا للقرية بتاريخها ، وناسها ، وعالمها الخاص جدا ، وتسجيلا للعادات والتقاليد والطقوس ، وهي مثل كل السير تهتم بإلقاء الضوء علي المعتقدات التي تؤثر علي كل شيء ، وأيضا تهتم بتوضيح أثر المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، علي نمط العلاقات الإنسانية ، وعلي الرغم من أن أحدا لا يعرف ماهي قرية (محب ) – كما لايعرف عزبة محروس- لأنها كما يقول كاتبها -علي لسانها- ( أنا واحدة من آلاف القرى التي تلتزم الوقوف علي ضفاف مجري المياه ، والقرية عادة ما تنتعل اعتبارها من مقام هذا لمجري ، أما أنا فأقع ولا فخر في حضن مصرف أسمه الخشبة ، المصرف الذي – اسم الله علي قيمتكم – تبول فيه غيطان الزمام كلها ، وتقضي حاجتها ، في غياب الدورة المائية ، ناسي بساطهم أحمدي ، ونفوسهم حلوة ، من نزيز الغيطان ، يأكلون ويشربون ، ويغسلون ويغتسلون ، والسبب أن التخصص – قناة للري وقناة للصرف – شيء مكلف وأبعد عن شاربي من نجوم السماء …) ، تلك القرية بعد أن تقرأ ما كتبه عنها عبد الفتاح الجمل ، تتحول رمزا لمصر كلها ، لأنك تري نفسك واحدا من أبنائها ، حتى ولو لم تكن قرويا ، وتري أن ما يتحدث عنه الكاتب أنما يمسك بشكل مباشر وحميم .. وهذا هو نفس الشيء الذي فعله ( سعيد الفرماوي ) حين كتب نصه ( حكايات عزبة محروس ) ، فعزبة محروس ، ربما تكون عزبة واقعية بالفعل ، وربما تكون متخيلة ، إلا أنها عزبة تشبه آلاف العزب الموجودة في قري مصر ونجوعها ، استحضرها الكاتب ، وتحدث عنها حيث المحب الولهان ، حديث العاشق الذي ابتعد عنها كثيرا ، إلي الحد الذي خشي أن تتوه من ذاكرته ، وتبتعد عن ذهنه الأحداث التي مرت به ، أيام طفولته ، وأيام صباه ، وأيام شبابه.. وتلك العودة إلي المنبع الأول ( القرية ) إنما هو محاولة من الكاتب لتنشيط الذاكرة ، تلك التي تصدأ لو أننا أهملناها ، وإهمال الذاكرة ، لا يجعلنا نلتفت إلي حجم المتغيرات التي حدثت في حياتنا ، وحجم الاختلاف ، في العلاقات والمشاعر، تنشيط الذاكرة محاولة لاستعادة الانتماء من جديد .. هذا هو هدف الكاتب من وراء عمله ، ولذلك نراه يكتب عبارة تحيا مصر ، علي اللوحة البيضاء التي رسم عليها وجه فتاة باعتبارها رمزا لمصر ، رغبة منه في تحويل الخاص إلي عام ، أي تحويل حكايات عزبة محروس ، من كونها عزبة ربما توجد واقعيا أو لاتوجد ، إلي رمز لمصر كلها ، نفس الشيء الذي أشرت إليه وأنا أستعرض في البداية ما سبق وأن كتبه ( الجمل ) في روايته ( محب ) !!
لماذا عقدت مقارنة – سريعة- بين نصين؟؟ بسبب أن سعيد الفرماوي ، نشر هذا النص باعتباره قصة قصيرة في مجموعة أصدرها في بداية الثمانينيات – بنفس الاسم – ، أي أنه أراد توظيف وسيط أدبي مسرحيا ، وتلك المسألة لجأ إليها عدد من المخرجين الذين أرادوا الاستفادة من بعض الأعمال التي كتبت بعيدا عن المسرح – روائية أو قصصية – وذلك لتقديمها علي خشبة المسرح ، للدرجة التي شاهدنا فيها عروضا ، تعتمد اعتمادا كبيرا علي مسرحة القصة القصيرة ، وهذا منحي تجريبي ، يتعلق بكيفية التعامل من النص ، وبقدرة الدراماتورجي علي القيام بتلك المهمة الصعبة .. الأمر هنا يختلف ، فسعيد الفرماوي ، قدم عرضه اعتمادا علي نفس خاصية القصة القصيرة ( خاصية السرد) ، بعيدا عن الحوار الدرامي المتعارف عليه ، وهو بذلك لم يقم بمسرحة القصة التي كتبها ، بتغيير طبيعة النص ، بل حافظ عليه ، وقدم محاولة التجريب في الشكل المسرحي ذاته ، مستخدما أدوات ومفردات ، يلجأ إليها المسرح ، خاصة المسرح الشعبي ، لكي يقدم عرضا صالحا للفرجة ، ولن تتحقق تلك الفرجة إلا باستحضار عناصرها ، وعناصرها – هنا – هي : الغناء الفلكلوري ( أغاني الأفراح وأغاني الميلاد وعديد الموتى ) – الغناء المعاصر الذي يشير إلي التحولات الخاصة في مجال الغناء – والرقص الشعبي ، ورقصة الشمعدان ، ورقصة التنورة .. وأيضا طقوس الموالد ، والاحتفال بالأولياء ، وكرامات الشيوخ ، خاصة الشيخ الطوخي ، ومقامه في عزبة محروس ، وخيال الظل ، والموتيفات الشعبية ( الخيامية ) التي أعتمد عليها ديكور العرض ، كل هذه العناصر- وغيرها – كانت موجودة في هذا العرض ، وقام المخرج بتوظيفها ، من أجل أن يضفي علي عرضه تلك المسحة الشعبية ، وبذلك يمكن أن نقول إن العرض من عروض المسرح الشعبي .. الحكائي .. الغنائي ، الذي حقق كثيرا من شروط الفرجة ، هدف هذا العمل المسرحي . ولكن .. ودائما كلمة (لكن) تلفت الانتباه ، وربما تغضب البعض .. ولكن هل السرد القصصي أو الروائي باعتباره الأداة الرئيسية ، في هذا العرض ، كان كافيا لإضفاء روح البهجة التي وفرتها العناصر الشعبية ؟؟ لقد كان هذا السرد باعثا علي الملل ، وأدي إلي جمود الموقف الدرامي ، عند منطقة واحدة فقط ، هي منطقة أداء الحكواتي إذا صح التعبير ، هذا الحكواتي أو الحكاء ، الذي يشبه شاعر الربابة – وهو بالمناسبة قد وظف أشعاره لكي تكون من النسيج السردي ، وليست خارجة ، عنه- هذا الحكاء ، بذل جهدا منفردا وحده ، وهو سعيد الفرماوي الذي قام بهذا لدور ، هذا الدور ، المنفرد هو الذي أضاع عليه فرصة ، التنوع ، ,أضاع عليه فرصة ، القيام بعملية التمسرح ، صحيح أنه قد غير بعض الأشياء التي كانت موجودة في عرضه ، حين قدمه في مسرح الشباب منذ ستة أعوام – أغسطس 2001 – من أخراج ( عصام السيد )أيضا إلا أن التغيير لم يكن بالقدر الكافي ، فلقد استعان بأصوات بعض الممثلين من خارج خشبة المسرح ، بحيث يظهرون أمامنا ، مجرد خيال ظل علي شاشتين من القماش الأبيض ، واحدة علي يمين المسرح ، والأخرى علي يساره ، حين يقوم هو بمخاطبة شخوصه ، تظهر خيالاتهم ، ليتم الحوار ، ولكن بشكل قصير جدا ، وسريع ، بحيث أنك لا تستطيع أن تقول إن العرض فيه ممثلين آخرين ، إلا ( سعيد الفرماوي ) فقط !!هو الواحد المفرد ، المتحدث ، والمتكلم دائما .. هذا الذي أضافه في عرضة – في مرحلتة الثانية – لم يكن كافيا – وحدة – لكي يحدث تلك الحيوية لتي أتحدث عنها .
ماالذي فعله ( عصام السيد ) كمخرج ، في هذا العمل ؟؟ نحن نعلم أن عصام السيد ، ليس بعيدا تماما عن المسرح الشعبي ، بل هو واحد من مبدعيه ، وربما كانت تجربته اللافتة التي قدمته للحياة المسرحية بحق ، هي تلك التجربة التي عرضها فوق خشبة المسرح المتجول ( سابقا ) في عام 1985 ، تحت عنوان ( درب عسكر ) التي كتبها الراحل ( محسن مصيلحي ) ، وكان عرضا يدخل منطقة التجريب من باب المسرح الارتجالي ، الحر، الذي هو أحد روافد المسرح الشعبي ، وعرض(حكايات عزبة محروس ) جاء متسقا مع تلك البداية ، ومتسقا مع روح عصام السيد الحقيقية ، حين يوظف أدواته ، وحين يقدم موقفه ، ويعكس ثقافته ، تجاه وظيفة المسرح – دعك من بعض العروض التي قدمها للمسرح التجاري ، التي ربما جاءت تلبية لضرورة مواجهة الحياة المادية والمعيشية الصعبة التي يعيشها الفنان الآن !! المهم أنه- هنا- كان قادرا علي توظيف كل مفردات المسرح الشعبي التي أشرت إليها منذ قليل ، وقدم صورة مسرحية ( أفضل أن أقول صورة مسرحية ، ولا أقول ( سينوغرافيا) !!) بسيطة جدا ، ولكنها بالغة الدلالة ، والحيوية ، خاصة ، أنه كان واعيا أن عرضا كهذا ، يقوم به ممثل واحد ، يحكي ، ويغني ، ويؤدي ، ويرسم ، ويلقي أشعاره ، لاتصلح معه دار عرض المسرح التقليدي ، بل تكون القاعة هي المكان المناسب له ، ولذلك ، حين عرضه للمرة الأولي في مسرح الشباب ، قدمه داخل قاعة ، وحين يقدمه الآن ، يقدمه فوق خشبة مسرح البالون ، ربما لأن مسرح البالون لا يحتوي علي قاعة مناسبة ، وخشبة مسرح البالون ، كبيرة جدا ، وصالحة ، لتقديم عرض مسرحي كهذا العرض ، وضع مجموعة من الدكك الخشبية ، المتوالية – كما الكراسي في المسرح التقليدي – في مواجهة منطقة التمثيل ، التي تواجد فيها ( سعيد الفرماوي) الممثل ، جالسا فوق منصة ، تشبه منصة قارئ القرآن في المساجد ، ومن خلفه ، تجلس جوقة الموسيقيين والمؤدين والمؤديات ، وعلي يمين المسرح ويساره ، تبدو أمامنا تلك الشاشتين باللون الأبيض بتوظيفهما ، تارة لظهور خيال ظل الشخوص التي تتحدث ولا تظهر ، وأحيانا يستخدمها كلوحة لرسام ، يرسم عليها رسومه .. لقد استطاع المخرج ، الاعتماد علي كل هذا في صورته المسرحية ، وأيضا وظف الديكور الذي صممه ( عباس حسين ) ـ معتمدا علي تلك الموتيفات الشعبية المعروفة ، مثل خمسة وخميسه ، الكف ، والجمل ، والحصان ، والرسوم فوق قماش الخيامية ، المحيط بالمنطقة الخلفية ، وعلي الجانبين .
لقد لعبت الألحان التي قام بها ( عماد الرشيدي ) دورا فاعلا في هذا العرض ، لأنها الحان لأغاني فلكلورية معروفة ، وألحان أغاني كتبت خصيصا للعرض ، مثل أغنية لجمال عبد الناصر ، وأغنية بمناسبة زيارة (سارتر) لعزبة محروس ، وأغاني الكورس ، والألحان المصاحبة للرقصات ، والاستعراضات التي صممها ( وفيق كمال) .. ذلك الجهد الموسيقي ، كان بالغ التأثير ، والحيوية ـ في عرض استاتيكي من ناحية النص كما أشرت إلي ذلك ، لقد أخرجت الموسيقي العرض من جموده ، وجعلته عرضا حيويا ، خاصة في تلك المناطق التي كان فيها اللحن حاضرا .
والحديث عن ( سعيد الفرماوي ) الممثل والمؤدي ، سيكون بالتأكيد في صالحة ، حيث إن أداءه أتسم بالحيوية ، والقدرة علي تقديم عرض مدته ساعة . وهو رجل متعدد المواهب : يرسم ، ويكتب الشعر ، والقصة ، ويمثل ، ويحاول الغناء ، ويملك موقفا ورؤية يعكسها عرضه ، حتى بدون أن يكتب عبارة ( تحيا مصر ) وهي عبارة مباشرة ، قللت من جهده ، وذلك لأن العرض بالمقدمات التي قدمها ، وبالصورة التي جاء بها ، يجعل المتفرج ذاته هو الذي يهتف بحياتها ، وليس بواسطة شعار ، ربما يدفعه إلي تفريغ الشحنة العاطفية ، التي تقلل من قيمة مشاعر الانتماء ، فتشابك ذكرياته القديمة مع ما ينغص الوطن من أحوال تخص جميع المشاهدين، والخوف الدائم الذي يشير إليه – عند نهاية عرضه – من تجاهل الذكريات ، وهي السبيل الوحيد أمامنا لمواجهة الحاضر والمستقبل معا ، بمعني آخر لابد أن تكون لدينا الذاكرة الوطنية ، التي بها نستطيع مواجهة التقلبات التي تحدث في حياتنا .
———————————————————–
نُشر في جريدة مسرحنا – أول أكتوبر 2007