منذ أيام قلائل أعلن المجلس الأعلى للثقافة أسماء الفائزين هذا العام بجوائز الدولة فى الفنون و الآداب و العلوم الإجتماعية ، و هى الجوائز السنوية التى تمنحها الدولة للمبدعين فى المجالات الثلاث حسب القانون رقم (37) لسنه 1958 و تعديلاته المنصوص عليها فى القانون رقم 8 لعام 2017 ، هذا عدا جوائز أخرى للدولة تمنحها أكاديمية البحث العلمى فى مجالات العلوم المختلفة ، و كلا من المجلس و الاكاديمية يقسم الجوائز الى عدة مستويات ، تبدأ بالجائزة التشجيعية التى تسمى “جوائز الدولة لتشجيع العلوم ، والعلوم التكنولوجية المتقدمة ، والفنون والآداب، والعلوم الاجتماعية “. و هى للشباب تحت سن الأربعين عاما ، ثم جائزة التفوق و تمنح لمن مارس البحث العلمي أو تطبيقاته أو الإنتاج الفكري أو الإبداع لمدة خمس عشرة سنة على الأقل ، على أن يكون لهذا الإنتاج قيمة علمية أو فنية أو أدبية ممتازة تشهد له بالأصالة والقدرة على الابتكار والتوجيه ، تليها التقديرية و تسمى “جوائز الدولة للإنتاج الفكرى ” و تمنح لمن يكون له مؤلفات أو أعمال أو بحوث لها قيمة علمية أو أدبية او فكرية أو فنية ممتازة ، و سبق نشرها أو عرضها أو تنفيذها ، و أن يظهر فى هذا الإنتاج الابتكار والإبداع و دقة البحث ، بحيث يضيف إلى العلوم أو الفنون والآداب قيمة جديدة تنفع الوطن خاصة والإنسانية عامة ، و على القمة تأتى جائزة النيل ( مبارك سابقا ) و هى اعلى الجوائز قيمة من الناحية المادية و المعنوية .
و يخصص المجلس الأعلى للثقافة لجائزة الدولة التشجيعية ثمان جوائز فى كل مجال من المجالات الأربع الآتية : الفنون ، و الآداب ، و العلوم الإجتماعية ، و العلوم القانونية . و تقوم لجنة بتحديد مجالات الجوائز فى الفنون و الاداب كل عام لكى تتنوع التخصصات . و تضم جائزة التفوق عشر جوائز ، يمنح المجلس الأعلى منها ثلاث لكل من الفنون و الاداب و أربعة للعلوم الاجتماعية ، ثم جائزة الدولة التقديرية و هى بنفس العدد و التقسيم ، أما جائزة النيل فهى جائزة واحدة لكل مجال من الفنون و الاداب و العلوم الاجتماعية ، و أخيرا أضيفت جائزة واحدة فقط لمبدع عربى فى أحد المجالات الثلاث.
و جميع هذه الجوائز تحكمها شروط عامة – تشترك فيها كل جوائز الدولة سواء التى يمنحها المجلس الأعلى للثقافة أو أكاديمية البحث العلمى – كأن يكون المرشح لها مصريا و لم يحصل عليها من قبل و هى لا تمنح للراحلين إلا لو كانوا قد ترشحوا لها قبل رحيلهم ، و أن يتم الترشيح عن طريق الهيئات او المؤسسات التى نص عليها القانون ، و فى نطاق تخصصاتها ، بشرط ألا يكون من القائمين على الهيئة المرشحة أو رؤساء مجالس إدارتها أو مجالس أمنائها أو أي من الوزراء وقت توليهم المسئولية ، و أن تمر 5 سنوات على الفوز بجائزة للترشح للجائزة التى تليها .
و منذ انشاء الجوائز عام 1946 باسم جوائز فؤاد الأول و فاروق الأول و اللغط ينتشر كل عام بعد اعلان الفائزين بها ، و حتى بعد أن تعدلت اسمائها عام 1953 الى جوائز الدولة للعلوم و الاداب و التى كانت 6 جوائز فقط ، و حتى اليوم بعد أن أصبحت بهذا العدد و تمنحها جهتين ، يرتفع اللغط عاما أو ينخفض فى آخر ، لكننا لا نعدمه إلا فيما ندر ، و يظل هناك تساؤل دائما ما يطرحه الذين لم يحالفهم الحظ بالفوز حول : اسباب الإختيار و آلياته ، و أحيانا يتجاوز البعض و يلقى بإتهامات أو شكوك !! و أعتقد أن هذا أمر طبيعى لأن كل متقدم أو مرشح يرى انه الأحق و الأجدر بها .
و على مدى السنوات حدثت عدة تغييرات فى عدد الجوائز و أسلوب و آليات منحها ، و حسب التعديل الأخير فإن جوائز المجلس الأعلى للثقافة تتم عن طريق لجان متخصصة فى كل مجال لفحص وتقييم الإنتاج المقدم لنيلها ، على أن تتكون كل لجنة من عدد لا يقل عن خمسة أعضاء ، ولا يزيد على أحد عشر عضوًا ، ممن سبق حصولهم على جوائز (النيل – التقديرية – التفوق) و تعد اللجان قوائم قصيرة تتضمن ضعف العدد المطلوب لكل جائزة ، مشفوعًة بمبررات تفضيلهم ، يختار منها المجلس الأعلى بالتصويت السرى الفائزين بالجوائز . أما فى حال جائزة الدولة التشجيعية فتقوم هذه اللجان بإختيار الفائزين و يصدق على الاختيار المجلس الاعلى فقط دون التدخل فى اعمال اللجان .
و هنا من وجهة نظرى تكمن المشكلة ، ففى الفنون على سبيل المثال هناك ثلاث جوائز فقط يتصارع عليها المبدعون من مجالات الفنون التشكيلية بكل افرعها من نحت و تصوير و خزف و جرافيك و تصوير ضوئى ، و بكل ما تشمل تلك الافرع من تخصصات دقيقة و مناهج متعددة و اساليب مختلفة ، و تشارك فى نفس الجائزة فنون المسرح من تأليف و نقد و تمثيل و اخراج و ديكور و ملابس ، و كذا فنون السينما و التليفزيون التى تضم التمثيل و السيناريو و الاخراج و المونتاج و التصوير و الديكور و الملابس ، و فنون الموسيقى تأليفا و عزفا و غناء ، الى جانب العمارة و الباليه و بقية الفنون الادائية بتخصصاتها المختلفة ايضا ، و كذلك الحال بالنسبة للاداب التى تضم الرواية و القصة القصيرة و شعر الفصحى و العامية و الدراسات الادبية و النقد و الترجمة ، أما العلوم الاجتماعية فتشمل كل ما يندرج تحت عنوان علوم النفس و الانسان و الاقتصاد و الاجتماع و التاريخ و الجغرافيا و القانون و الآثار و علوم اللغة و العلوم السياسية .
و بالتالى يصبح الاختيار صعبا ، فأمام مجموعة ضخمة من المرشحين – أو المتقدمين بأنفسهم فى جائزة الدولة التشجيعية و جائزة التفوق – و فى فروع مختلفة و تخصصات متعددة تضطر وبعض اللجان الى ( المحاصصة ) فلا يتم اختيار أكثرمن مرشح من مجال واحد ، بل يتم توزيع الاختيار على التخصصات المختلفة فتختار اللجنة الافضل فى ثلاث او اربع تخصصات و يظلم الباقين ، كما تحكم نسبة المنتمين لكل فرع من فروع الفنون او الاداب او العلوم الاجتماعية فى كل لجنة من لجان الفحص التصويت النهائى ، فإذا كانت الأغلبية للفنانين التشكيليين تصير لهم الغلبة فى حسم النتيجة لصالح المرشحين من التشكيليين و هكذا ، مع مراعاة بعضا من الأمور الإنسانية كتفضيل إختيار من توفاه الله بعد ترشحه للجائزة ليس لأنه يستحقها فحسب و لكن لانها الفرصة الأخيرة حيث لا يجوز ترشيح إسم من غادرنا من المبدعين كما ذكرنا . و أحيانا تخلط بعض اللجان بين أن الجائزة للمنجز الإبداعى و بين أن المنجز الذى يتقدم به بعض الاشخاص هو منجز فى الادارة او الوظيفة ، او منجزا على مستوى التفاعل الاجتماعى أو النشاط الثقافى ، و لكنى اعتقد أنه ليس بالضرورة أن كل ناشط ثقافى تتصدر اخباره الصحف هو مبدع متميز يستحق الجائزة ، أو تجد اللجنة نفسها فى حيرة بين مبدع كبير توقف عن الإبداع منذ سنوات ، بينما مرشح آخر مازال مواصلا لمسيرته و لم يتوقف عن الإنجاز .
و بعد أن تنهى اللجان عملها يتم تصعيد المرشحين الذين اختارتهم ( فقط ) الى المجلس الأعلى الذى يعتمد التصويت اسلوبا للإختيار فى آلية دقيقة تغيرت عن السابق عندما كانت تطرح كل الاسماء على المجلس ، فالآلية السابقة تسببت عدة مرات فى حجب بعض الجوائز بسبب عدم الوصول الى النصاب القانونى فى التصويت برغم استحقاق المرشحين . و لكن اختلفت الآلية حاليا بالإضافة لمنع أعضاء المجلس بحكم وظائفهم فى وزارة الثقافة من التصويت بعد شكاوى عدة من أن الجوائز أصبح منحها بيد الموظفين ، و هو اتهام غير صحيح حيث انهم لم يكونوا الفئة الأكثر عددا .
و برغم أنه قبل التصويت يتم توزيع اسماء المرشحين و اسباب ترشيحهم و سيرتهم الذاتية و اسباب اختيار اللجان لهم على اعضاء المجلس لدراستها ، إلا أن ” عوامل اخرى ” تتدخل فى التصويت – لا أعتقد أن هناك سبيل لتجنبها – مثل شهرة المرشح ، أو مدى معرفة اعضاء المجلس بمنجزه الابداعى ، او تحيز بعض الأعضاء للمرشحين من تخصصاتهم ، و إن كان بعض الخبثاء يقولون أن التربيطات هى التى تقود التصويت ، عن طريق اتصالات بعض المرشحين بأعضاء المجلس الموقر . و هناك واقعة شهيرة عندما طالب أحد أعضاء المجلس الكلمة قبل بداية التصويت ليحث باقى الأعضاء على نسيان أمر كل من اتصل بهم سواء من المرشحين او مناصريهم و أن يحكّم الأعضاء ضمائرهم فقط ، و أن يتخلوا عن الأوراق الصغيرة المدسوسة فى جيوبهم و تحمل اسماء من تم توصيتهم بإختيارهم .
أيا ما كانت التحفظات او الاعتراضات او الاقاويل ، تظل قلة عدد الجوائز بالنسبة لعدد فروع و تخصصات الفن و الأدب و العلوم الإجتماعية هى العامل الأكبر فى إثارة الاعتراضات و المسبب الأول للمشاكل ، و برغم زيادة عدد الجوائز و استحداث جائزة التفوق إلا أنها مازالت اقل من نسبة عدد المبدعين و المفكرين المصريين فى شعب تعداده 100 مليون على الاقل . و ليست هناك جوائز بديلة مثلما كان الأمر في الستينات ، حيث كان عيد العلم بما يمنحه من جوائز كثيرة يعتبر تعويضا عن قلة جوائز الدولة ، و فى السبعينات كان عيد الفن يقوم بنفس المهمة ، و لكن منذ الثمانينات و حتى الآن اختفى العيدان بجوائزهما و لم تبق سوى جوائز الدولة .
فهل تعيد الدولة النظر فى عدد جوائزها ؟