..الحكاية الإنسانية تطغى على الفكرة السياسية
سهى زكى نشر فى موقع حريتي 2018/03/05 الساعة 5:31 مساءً
العرض المسرحى “اضحك لما تموت ” هو تجسيد حى لصراع أبطال الحكايات على الظهور ، كانت الشخصيات التى رسمها الكاتب الكبير “لينين الرملى ” تتصارع ببراعة لتوصيل رسالة عن صراع الاجيال ، ورثاء فى موت المعانى الكبرى والمبادىء المهدورة لكن تنتصر الإنسانية المجردة على أى تأويل سياسى مقصود ، فجاءت العلاقة الطريفة بين الصديقين هى الأقرب لى كمشاهد ، محاولة إنقاذ كل منهم للأخر من الحزن والكآبة والخوف فى ظنى هو المعنى الأكبر الذى انتصرت له المسرحية بعدما وقفت ككائن حى صامد على الخشبة ، فقد صرخت فى وجه الجميع برسالة هى الأهم من كل المقولات المعلبة فى قاموس المثقفين ، الرسالة هى ” هيا بنا نعود للنبل ” .
صحيح أن ثورة 25 يناير كانت كاشفة بشكل صادم للعلاقة بين الكبار والشباب، وصحيح أنها سلطت اضاءة محزنة على واقع مشوه لم ينجو للأسف من هذا التشوه.
المسرحية تستعرض بهدوء شديد يخلو من ” الحنجورية الثورية ” رغم عدم تعاطفى مع ظهور “الثوار ” فى المشاهد الاخيرة للعرض ، الا ان الصديقين وحديثهما هو ما كشف لى أزمة الاجيال التاريخية مع تاريخ الثورات ، و كيف أن باحث تاريخى مهم كان يقوم بتأليف الكتب السياسية والتاريخية للتنظير على الواقع وهو “يحيى سعد ” الذى يجسده العملاق نبيل الحلفاوى ” كيف يتغير هذا المثقف مع الزمن بعد معايشة واقع أجبره على التعامل مع الحياة برؤية لا تتفق إطلاقا ما كتبه نظريا فى مؤلفاته الذى يصدم أحد الثوريين بعد لقاءه به وهو لا يصدق ان هذا العدمى البائس الذى يقف أمامه هو أحد المنظرين للثورة ، كيف وصل لهذا الحال وكفر بها ، ويحكى له الشاب عن أبنه الذى تركه ونزل للمشاركة فى الميدان ، لنتذكر جميعا كيف كان اهالينا يمنعوننا عن النزول لأن لهم رأى ناتج عن تجربة عاشوها ، وعين تنبؤية تعرف أن الامر لن ينتهى الى ما يتمنوه ببراءتهم ، الدكتور “يحيى سعد ” الذى يكره ان تناديه دكتور فى تأكيد على إحباطه من عدم جدوى تلك الدكتوراه يأوى فى منزله فتاة انتهكت ادميتها حتى فقدت الشعور بها وربما يميل البعض لاعتبارها رمزا وطنيا ، وربما لا ، خاصة وانها نموذج ل40% الاميين فى مصر ، وكيف انه يخاف عليها كأبنته لدرجة ان صديقه طاهر المكتئب لا يصدق انه يأويها بلا مقابل ، وانه لابد هناك علاقة خاصة بينهما ، ولكن يؤكد عليه صديقه انه فقط يحميها فى بيته وهو يأتنس بها لأنه يخاف ان ينام وحده منذ ماتت زوجته وهجره ولده ، رغم وجود منزله الكائن فى ميدان التحرير المزدحم دائما ، والذى يشهد احداث الثورة فى حين هو لا يعنيه ما يحدث بالاسفل ، لا هو ولا صديقه طاهر العجوز المكتئب .
“يحيى سعد ” أو “نبيل الحلفاوى ” من النجوم الذين يحققون سحرا بظهورهم فى اى عمل يقدمونه ، حيث نفحه الله “كاريزما ” لا تتكرر كثيرا كان يتحرك على المسرح بخفة نجم شاب على عتبات مشواره الفنى بطاقة هائلة، يبهرنا ببساطة اداءه المسرحى والذى لم أنساه منذ شاهدت له ” عفريت لكل مواطن ” والتى كانت ايضا من تأليف “لينين الرملى ” واخراج محمد ابو داود ، وبطولة عبلة كامل ، ، اما النجم محمود الجندى ، والذى احتفظ بخفة الدم والصوت الحلو رغم المتاعب الصحية الواضحة عليه ولكن من حسن الحظ ان الدور يناسبه تماما ، أثبت ان الموهبة لا يؤثر عليها اى عوامل سواء نفسية او صحية وانها مع خفة الدم موازية لاستمرار التنفس فكان دور طاهر خفيفا وعميقا ، وحرص على ان يشدو بصوته مواله الشهير الذى يغنيه فى كل اعماله المسرحية فلم تبرح موهبته قدرته على الغناء بصوت جميل .
من أكثر الادوار تميزا كان دور “حربية” التى أدته الممثلة ” مريم سعيد صالح ” والتى تقوم به بدلا من النجمة “سلوى عثمان” ، فكانت هى حكاية الحب القديمة للصديقين ، وهى ايضا الصدمة لهما بعد كل هذا العمر ، فقد كان لكل منهم خياله الرومانسى عنها ، بل أن كل منهم كان يسميها حسب هواه فهى حورية أو حرية ولكن يتضح عندما تأتى لزيارتهم بأن أسمها “حربية ” هى بعيدة كل البعد عن خيالهما الرومانسى ، كسرت هذه الشخصية حالة الشجن الكبيرة الطاغية على كوميديا المعركة بين الصديقين وجاء ظهورها مبهجا بشدة سواء للحالة المسرحية على الخشبة أو للجمهور الذى صنعت له حالة من اليقظة ليستأنف متابعته للرسائل التى تكتظ بها المسرحية بشغف .
كما ترك الممثل الشاب الذى قدم دور الطبيب الذى يعذبه “يحيى” فى علاجه اثرا لطيفا على الجمهور وجعلهم يصفقون له اكثر من مرة فى دقائق معدودة هى توقيت ظهوره على الخشبة .
هذه المسرحية هى العمل رقم 54 للكاتب الكبير لينين الرملي وتعد العمل الثامن الذي يجمعه بالمخرج عصام السيد ، ويعد العرض هو الجزء الثالث لمسرحية “أهلا يا بكوات” ومسرحية ” وداعا يا بكوات” وهي عودة جديدة لتعاونهما معا.. واللافت للنظر فى بعض اعمال “لينين” أنه دائما ما يستخدم تيمات غيبية للتعبير عن ازمات نفسية مثل عفريت او شبح ما للتعبير عن فكرة لا يريد لها الغياب فى نصوصه ، فهذا ما كان فى مسرحياته” عفريت لكل مواطن ، وتخاريف ، واهلا يا بكوات بجزئيها ” ، كما كانت فكرة “القتيل ” ايضا فى مسلسله”هند والدكتور نعمان “ويكررها فى عرضه الاخير ” أضحك لما تموت ” حيث استخدم “الشبح ” أو “الجثة” التى تنادى بغسلها ودفنها فى اشارة واضحة تناسب تأويلات متعددة ، فربما هذه “الجثة ” هى “حق الشهداء الذى لم يعود ” وربما هى ” “المبادىء” والقيم التى تصارع دكتور يحيى والتى ظهرت فى حواره مع صديقه طاهر الناصرى الذى ينتمى للحزب الوطنى (رجل كل العصور )، فى النهاية المسرحية تثير العديد من التساؤلات لدى المشاهد منها :هل هناك جدوى من العلم فى ظل تواجد نسبة كبيرة من الاميين ؟ .
ديكور المسرحية الذى نفذه محمود الغريب موفقا جدا ، فقد غلب عليه احساس الحميمية والرتابة الموجودة فى البيوت المهجورة من المحبة ، وكانت الملابس التى صممتها نعيمة عجمي تناسب ادوار الابطال ، أما الموسيقى فقد كانت من اروع عناصر العمل ولم اندهش عندما علمت انها للمايسترو الفنان هشام جبر، الاستعراضات لشيرين حجازي على الرغم من عدم تعاطفى مع فكرة ظهور الثوار الا انها كانت مصممة ببراعة وحتى مؤديينها كانوا على مهارة عالية جدا وجوههم واجسادهم تنطق بحماس الفكرة ، وكانت السينوغرافيا المصاحبة للعرض موفقة ورائعة لدرجة الابهار ، حيث حرص المخرج عصام السيد على أكتمال الحكاية من خلال تعريف المشاهد بالأبطال المحكى عنهم على لسان الصديقين .
س. ز ( راي من مقعد المتفرج)